تأملات ما بعد كوفيد 19 في مجال العلاقات الدولية

للدكتور/ سعد عبدالله الحامد ( السعودية)
كاتب ومحلل سياسي ومستشار في المنازعات الدولية

لقد أثرت تجربة كرونا وانعكاساتها على مقومات العديد من دول العالم وعلى ميزان القوى العالمي، بعد ما أظهرت الوجه الحقيقي لى امكانات وقدرت العديد من الفاعلين الدوليين على مواجهة أي تحديات واخطار مستقبليه مفاجئة لقد خلقت تجربة كرونا واقع مختلف للعديد من الجوانب سواء على جوانب السياسات الدولية الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية والسلوكية، ولكن بعد هذه المرحلة بكل ما حملته من أحداث هل هناك مستجدات ستظهر لتفرض لغة الواقع ولتعود المدرسة الواقعية بكل قوتها وتثبت أنها الاطار المنهجي الذي يحكم العلاقات الدولية المعاصرة بين الدول؟

     في ظل وجود المصالح المؤثرة على العلاقات الدولية والوسائل الدبلوماسية الإبداعية لتحقيق أهداف السياسات الخارجية للدول والتي من أبرزها القوى الناعمة وادواتها المعاصرة كوسيلة تلجأ لها دول عظمى لإحكام سيطرتها ومد نفوذها بشكل أكبر وخاصة فى النواحي الاقتصادية كمثال على ذلك الصين وروسيا ومدى قدرتهما على المنافسة ومواجهة النفوذ الامريكي واستغلال الأخطاء الاستراتيجية والجيوستراتيجيه والجيو اقتصادية للولايات المتحدة أحيانا لمصلحتها، كما حدث مثلا في الانسحاب الامريكي من افغانستان وكيف أن الصينيين سارعوا بإيجاد علاقات شراكة استراتيجية بينهم وبين طالبان وتحسين العلاقات فيما بينهم، ولكن باعتقادي الشخصي أن مراحل وتغيرات كبيرة في المجتمع الدولي بدأت معالمها تتضح وتنسج علاقاته في ضوئها، فمثلا هناك انعكاسات على مجالات الطاقة وضرورة وجود مصادر بديلة للنفط لدى الدول النامية، وبالتالي تنويع مصادر الدخل وتنوع الاستثمارات وايجاد مصادر لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود وتنويع النشاط الاقتصادي وكذلك النمو الصناعي ودعم قطاع الصناعة والزراعة لإيجاد منتجات محلية تستطيع منافسة المنتج الأجنبي، وبالتالي تقليل الاستيراد للوصول الى تحقيق الاكتفاء الذاتي تدريجيا، وخلق سوق تنافسي محلي يدعم عجلة الاقتصاد، والتعافي السريع من الآثار الاقتصادية السلبية لتلك الجائحة .

      لقد افرزت نتائج كوفيد19 على العالم المتطور أيضا ركودا لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تأثرت الولايات المتحدة بشكل كبير جدا لما سجلت ارتفاع معدلات البطالة خلال فترة الوباء من 4.4% في مارس/آذار 2020  إلى 14.7% في أبريل/نيسان من ذات السنة، وإغلاق العديد من الشركات والمؤسسات ليتم الاستغناء عن العاملين بها، وفي هذا الصدد صرح “غاي رايدر” المدير العام لمنظمة العمل الدولية: ” لقد عدنا إلى الوراء، لقد عدنا إلى الوراء بشكل كبير. عاد فقر العمال إلى مستويات عام 2015؛ وهذا يعني إلى (مستويات) زمن وضع خطة التنمية المستدامة لعام 2030، عدنا إلى خط البداية”.

ومن بين المناطق الأكثر تضرراً في النصف الأول من عام 2021 نذكر؛ أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأوروبا وآسيا الوسطى، وجميعها ضحايا للتعافي غير المتكافئ.

    نحن اليوم أمام تغيرات مستقبلية بداية من التكتلات والتحالفات الإقليمية وأثرها على الفاعلين الدوليين وهي تحالفات متنوعة استراتيجية وأمنية وعسكرية واقتصادية مرتبطة بصراع النفوذ الاقتصادي بين الكبار ومن أمثلتها تحالف أوكوس واسيان وشمال امريكا والبقيه وبالتالي فان الدول العظمى لن تستمر في احلامها وسباتها فالصاعدون اقتصاديا وصناعيا من الدول هم من سيغيرون المعادلة مستقبلا لتنعدم لغة الاله العسكرية والتلويح بنبرة الحروب فمصطلح العولمة قد يندثر ليحل محله مصطلح التحالفات الاقتصادية الإقليمية الصاعدة فالصين تسعى بقوة لمقارعة أمريكا وأيضا العديد من الدول تحاول الصعود إضافة إلى دول نامية أخرى لتصبح الحروب الإلكترونية والسيبرانية أداة فاعلة وكمثال على ذلك مفاعل نطنز وكيف تم تعطيله عبر هجمات الكترونيه وبالتالي فالصراعات القادمة مختلفة في أدواتها ايضا كحرب المياه مثلا ولعل من المستجدات القادمة ايضا تحول بعض التنظيمات الإسلامية الي فاعلين في ادارة دول بدعم من الفاعلين الدوليين كتجربة حركة طالبان في افغانستان ومدى قدرتها على بناء هيكل دولة مؤسساتيه في ظل خبرتها المحدودة وباعتقادي أن هذا النموذج سيخضع لتقييم دولي حتى تتضح رؤيته المستقبلية سواء على مستوي السياسة الداخلية او الخارجية ومدى نجاحه في ذلك.

     كذلك فالنظرة الواقعية للأحداث الدولية الآنية سترسم القادم بصوره مختلفة  من حيث تغير الاسس التي تنطلق منها تلك العلاقات مثلا ولاننسي العوامل الداخلية للبلدان من عوامل دينية وثقافية واجتماعية وسلوكيه ونفسيه وابعاد اقتصاديه داخليه تلقي بظلالها ايضا  وهنا تساؤل مهم وهو هل ستكون البرجماتية النفعية هي الفيصل في علاقات الدول مستقبلا؟ والإجابة تعتمد على مدي ذكاء الدول في تحقيق مصالحها ومؤامتها مع محيطها الخارجي والداخلي والاقليمي فمثلا صفقة الغواصات الاسترالية الأمريكية وطريقة تحولها من فرنسا إلى أمريكا حتى شكلّت أزمة حقيقية مثال واضح للبرجماتية التي تهدف منها واشنطن لإيقاف بكين وكذلك التحالف الدفاعي الثلاثي الاسترالي الامريكي البريطاني جانب اخر من تلك المواجهة وكذلك احتدام الصراع بين روسيا والولايات المتحدة مع دول حلف الناتوا في منطقة البحر الأسود وجزيرة القرم واستخدام أوكرانيا بهدف الحد من السيطرة الروسية على إمدادات الطاقة إلى أوروبا عبر البحر الأسود من خلال فرض حصار اقتصادي وعسكري وفرض عقوبات على روسيا، ومن ثم عرقلة مشروعاتها الخاصة بنقل المزيد من إمدادات الطاقة إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب تحت الإنشاء حالياً كورقة ضغط  لتأمين الملاحة في الممرات المائية ومن الهيمنة الروسية عليها ولا ننسي الشرق الاوسط ايضا وملفاته المشتعلة فتراجع الولايات المتحدة في عديد دول الشرق الاوسط يعكس اخطاء أمريكية قد تكلفها انحسار نفوذها لمصلحة منافسيها الصينين والروس برغم ما يصرح به مسؤولوها من رغبتها

اعادة تموضعها لمقارعة منافسيها  وترويض ايران من خلال مفاوضات فيينا وفرض الواقع الذي تريده واشنطن على طهران من خلال تلك المفاوضات والكن الواقع لا يعكس ذلك فعلا، برغم رغبتها بعودة البرنامج النووي الذي يجده الديمقراطيون حل لمشاكلهم مع ايران وبرنامجها النووي ومع ادارة جوى بايدن ولايخفي ايضا اهدف طهران الكبيرة من رفع العقوبات التي دمرتها داخليا واقتصاديا ولكن ليس علي حساب ايدلوجيتها الثوريه التخريبيه في المنطقة او علي حساب برنامجها الصاروخي الباليستي، او على قطع اذرعه الميليشياويه في دولنا العربية لان ذلك يعني قتل مشروعها الفارسي في الدول العربية ولذلك هي تفاوض لتصل لما تريده وليس ما يريده الامريكان. ومن نفس الباب يحاول الأوربيون لاسيما فرنسا ايجاد مبادرات تحفيز ودفع المفاوضات وعودة البرنامج النووي لاستفادة شركاتها من عقود مع الشركات الإيرانية النفطية الضخمة وفي خضم كل ذلك لازلت دولنا العربية تنشد الاستقرار وتحاول اللحاق بركب الدول التي سبقتها في جوانب التنمية مثل دول الخليج العربي وكذلك مصر ولازال كابوس الثورات العربية بربيعها المشؤوم يستهوي البعض الاخر وقيم الحرية والديمقراطية والمساواة التي اثقلت كاهل تلك الدول واصابت نموها وتطورها في مقتل ولازال الحالمون يلهثون خلف تلك الاحلام ولازالت جماعات الاسلام السياسي تحاول ان تصنع واقع يختلف عن حقيقته ووجهها القبيح في تدمير دولنا فليبيا وتونس والسودان وقبلهم مصر مثال لا يحتمل التأويل لعبثية تلك الجماعات اضافه الي ما يقوم به وكلاء طهران العرب في دولهم من تدمير بلدانهم وتنفيذ مخططات اصحاب المصالح الخارجية واخير باعتقادي ان ما بعد كوفيد 19 هو ان البرجماتية المطلقة في منظومة العلاقات الدولية هي من سيفرض نفسه والحروب الاقتصادية سمه قامه بقوه في ظل بناء تحالفات ذات طابع اقليمي والحروب السيبرانيه والحروب المائية وانحسار الفكر الاستراتيجي العسكري لتبعاته وتكاليفه المرتفعة في مقابل نجاح الاستراتيجيات الاقتصادية .